الحوار

8٬270

الحوار في الاصطلاح اللغوي هو نشاط عقلي ولفظي يقدم المتحاورون الأدلة والحجج والبراهين التي تبرر وجهات نظرهم ومن أهم آداب الحوار :
 
1- أن يكون كافة الأطراف على علم تام بموضوع الحوار.
 
2- أن يكون لدى كافة أطراف الحوار الاعتراف بالخطأ في حال خالف الصواب .
 
3-أن يتأدب كل طرف مع الآخر باختيار الألفاظ المناسبة التي يرتضي المحاور أن يسمعها من غيره .
 
4- أن يحترم كل طرف عقيدة الطرف الآخر ومبادئه وأن يراعي نفسيته .
 
5- أن يكون الدافع الرئيسي لدى جميع أطراف الحوار إصابة الحقيقة وأن يكون الوصول إلى الصواب والحق .
 
6- البعد عن الغضب وأسبابه مع الحرص على الإعتدال حتى ينتهي الحوار .
 
7- أن يكون لدى كافة الأطراف قدرة على التعبير .
 
8- المرونة في الحوار وعدم التشنج
 
9 – الإصغاء للطرف الآخر والاستفادة من طرحه وكبت جماح النفس عند الرغبة في الجدال ، والعرب تقول : رأس الأدب كله الفهم والتفهم والإصغاء إلى المتكلم ، ومن أهم الفوائد التي تستفيدها من هذه النقطة اكتساب صفة الحلم .
 
فوائد الحوار :
 
1 _ يتم من خلاله تبادل الأفكار بين الناس وتتفاعل فيه الخبرات .
 
2 _ يساعد على تنمية التفكير وصقل شخصية الفرد.
 
3 _ يولد أفكار جديدة .
 
4 _ ينشط الذهن .
 
5 _ يساعد على التخلص من الأفكار الخاطئة .
 
6 _ يساعد على الوصول إلى الحقيقة . بحرية تامة من أجل الوصول إلى حل لمشكلة أو توضيح لقضية ما .ى الإطلاق ، لأنه لا يوجد حوار فى حال القتل والتدمير ، وإنما هى غريزة الغضب ، حين تعبر عن نفسها بصورة وحشية ، وهذا ما يجعلنا نقرر أن الحوار مرتبط بالعقل والمصلحة والعمران ، وأنه بقدر ما يكون هناك حوار متصل بين الدول يبتعد شبح العدوان والتخريب .
 
ومن ناحية أخرى فإن استمرار الحوار فى المجتمع ، وتعدد مستوياته ، وتنوع موضوعاته – تعد علامة صحية على حيوية هذا المجتمع ، واتجاهه إلى مزيد من التقدم، وتحقيق الازدهار . وفى المقابل من ذلك ، فإن المجتمع الخالى من الحوار تسوده العزلة ، وينخر فيه الضمور ، على الرغم مما قد يبدو على سطحه من الهدوء والاستقرار . وكما قيل بحق إنه لا يوجد مكان أكثر هدوءًا واستقرارًا من القبور !
 
 
دوائر الحوار :
 
للحوار دوائر متعددة . تبدأ من دائرة حوار الإنسان مع نفسه . والواقع أن هذا الحوار لا يتوقف أبدًا . وهو يتجلى بصورة واضحة قبل اتخاذ القرارات ، وكذلك بعدها. وهذا هو المستوى الواقعى الذى تترتب عليه نتائج عملية فى الحياة اليومية. ولا شك أن درجة الثقافة والوعى بالبيئة المحيطة إلى جانب الذكاء الشخصى : تعدّ عوامل هامة فى جودة اتخاذ القرارات المناسبة فى مختلف المواقف التى يتعرض لها الإنسان.
 
لكننا ينبغى أن نتنبه إلى أن حوار الإنسان مع نفسه قد ينتقل إلى مستوى خيالى خالص ، وهو ما يطلق عليه عادة أحلام اليقظة ، أى الحوار مع النفس حول أمور غير قابلة للتحقيق . وليس هذا المستوى مرفوضَا كله ، بل إنه مطلوب بجرعات محددة ، يكون الغرض منها حفْز صاحبها إلى مزيد من العمل وبذل الجهد ، أما خطورته فتتمثل فى الاستنامة له ، وإدمانه على نحو مرضى ، والأكثر خطورة أن الحوار يتحول من الحديث بين اثنين إلى حديث من طرف واحد ، وإصغاء كامل من الطرف الآخر (الإنسان ونفسه) .
 
وتتمثل الدائرة الثانية فى حوار الإنسان مع أفراد أسرته ، وأصدقائه ، وأهم ما يميز هذا النوع هو الحرص على مصلحة الإنسان ، وشيوع روح المودة ، وتناول مختلف الموضوعات بدون حرج ، لكن أهم ما يفسده هو الاقتصار على سماع الرأى الذى يتمشى مع ميول الإنسان وأهوائه ، ونفوره من الرأى الذى يتعارض معها . هنا ينقطع الحوار ، ولا يبقى إلا صوت واحد ، هو الصوت الذى يريد أو يرغب الإنسان فى سماعه. وعند التحليل الأخير ، لن يكون هذا الرأى إلا رأيه هو ! إن الحوار الحقيقى يحتاج إلى احتكاك عقول متباينة بعضها ببعض ، وهذا الاحتكاك هو الذى يولد وجهات النظر المختلفة ، والتى لا تخلو كل واحدة منها من فائدة . وكما قال (بول فاليرى) بحق : “علينا أن نغتنى بخلافاتنا” والمقصود أن نستفيد من الآراء الأخرى باعتبارها وجهات نظر للموضوع أو للمشكلة المطروحة من زوايا متعددة ، قد تتيح لنا مالا تتيحه النظرة الواحدة من منظور واحد .
 
أما الدائرة الثالثة فتتمثل فى حوار الإنسان مع زملاء العمل . وهنا ينحصر الحوار فى مجال أو مجالات محددة ، ويحركه فى الغالب حب الغلبة ، والمنافسة ، لكنه عندما يخلو من المطامع والأغراض الشخصية ، وينصب على مصلحة العمل ، وتحسين وسائل الأداء ، أو زيادة الإنتاج فإنه يكون مثمرًا للغاية . ومما يساعد على ذلك وجود القدوة على رأس العمل ، الذى يهيئ الظروف المناسبة للحوار البناء ، من خلال اجتماعات ، تشيع فيها روح الديمقراطية ، وعدم الخوف من التعبير عن مختلف الآراء، وتشجيع أصحاب الأفكار الجديدة والمبادرات .
 
وهنا لابد من التوقف قليلاً عند كلمة مأثورة فى ثقافتنا العربية تقرر أن (اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية) وهى عبارة جميلة جدًا تتضمن قاعدة ذهبية من قواعد الحوار ، لكننا نلاحظ عدم تطبيقها فى حياتنا اليومية ، ولا فى معاملاتنا مع الآخرين . فنحن نغضب جدا ممن يختلف معنا فى الرأى ، ويسرع المنافقون فيصورونه لنا على أنه عدو يسعى لتدميرنا ، وهكذا يتحول صاحب الرأى المخالف إلى “جبهة أخرى” تستحق التدمير ، بدلاً من أن نواصل الحوار معه بهدف الوصول إلى أرضية مشتركة ، أو نقطة وسط .
 
ومن التجارب المتكررة التى مرت بى فى هذا المستوى أن صاحب الرأى الآخر أو المختلف قد يخونه التعبير ، فيذكر ألفاظا قد تسىء إلى من يحاوره ، وهنا يتحول الحوار إلى عراك شخصى ، ويبتعد تماما عن الموضوعات التى كانت أساسا للحوار . وهكذا قد تتسبب زلة لسان فى إفساد حوار ، كان من الممكن أن يؤدى إلى نتائج جيدة .
 
إلى جانب ذلك ، هناك عبارات قد يستخدمها المحاور فتهدّئ من عدوانية الطرف الآخر ، وأحيانًا ما تقوم بتخديره. وقد لاحظت كثيرًا أن بعض الأشخاص كان يحشو حديثه بألفاظ (حضرتك ، سيادتك ، سعادتكم .. إلخ) بينما ينطوى الحديث على الكثير من المغالطات والأخطاء ، ومع ذلك كانت تغتفر له . وهذا هو ما يطلب لى أن أطلق عليه مصطلح “مخدرات الحوار” . وبالطبع فإنها لا تؤثر إلا فى المدمنين على سماح المديح ، أو الذين يفضلون عدم استخدام عقولهم .
 
وأخيرًا نصل إلى دائرة للحوار أكثر اتساعًا وتنوعًا ، وهى جوار الإنسان مع المجتمع . ولا شك أن هذه الدائرة تشمل حشدًا متنوعًا من أنواع الحوار التى يجريها الإنسان مع أشخاص قد يرغب فى إقامة علاقات معهم ، أو تضعهم الظروف فى طريقه . فمثلاً عندما تسافر فى قطار أو طائرة تجد نفسك بجوار شخص لا مفر من أن تتبادل معه بعض كلمات المجاملة ، التى قد تتحول إلى حوار ينتهى عادة بإنتهاء الرحلة . فى هذا النوع من الحوار عليك أن تستخدم كل ثقافتك التى حصلتها حتى تكون على مستوى الحدث – كما يقولون ، فلا ينبغى أن تبدو أقل من محاورك معرفة أو اطلاعًا . وعليك فى هذه الحالة أن تتقبل منه بعض الآراء التى قد لا تروق لك ، كما أن عليك أن تجعل الحديث عذبًا وتحافظ على استمراره . هنا يتخلل الحوار الكثير من الابتسامات ، وهز الرأس موافقة ، ويكاد ينعدم الخلاف .
 
لكنك حين تضطر لاستدعاء من يصلح لك الثلاجة أو التليفزيون فى المنزل ، عليك أن تجرى حوارًا من نوع آخر تمامًا . فأنت تريد تحقيق مصلحتك بأقل مبلغ ممكن ، والطرف الآخر يبالغ فى حجم الإصلاح ، وبالتالى يزيد الأجر . وهنا يدور حوار قد تعلو نبراته وتهبط ، وتستخدم فيه وسائل متعددة منها التهديد بالتعامل مع عامل آخر ومنها الإغراء باستمرار التعامل معه فى المستقبل ، ومنها الاستعطاف والاسترضاء حتى يصل الحوار إلى الهدف المطلوب ، وهو تحقيق مصلحة كلا الطرفين .
 
وهكذا فإن دائرة حوار الفرد مع المجتمع تتسع وتتنوع لتشمل أحيانًا حوارًا مع تلميذ فى مدرسة ، أو طالب فى جامعة ، أو عامل فى مصنع ، أو فلاح فى حقل ، أو شخص على مقهى ، أو بائع فى محل ، أو شرطى فى مخفر .. وكما يتضمن حوارًا هادئًا ومعقولاً فإنه قد يشمل حوارًا صاخبًا ومتهورًا . وهنا ينبغى على الإنسان أن يكون على وعى بمستويات الثقافة الموجودة فى المجتمع ، وأن يجيد التعامل مع كل منها دون استعلاء عليها ، أو تفريط لحقوقه فيها . ولا شك أن إجراء الحوار مع كل من هذه الأطراف المتنوعة يتطلب لغة خاصة ، وأسلوبًا فى الإقناع يتناسب مع صاحبه . وهو يثبت أننا لم نعد أمام “حوار” واحد ، وإنما أمام “حوارات” متعددة . وهذا يقودنا إلى الحديث عن أنواع الحوار .
 
 
أنواع الحوار :
 
للحوار أنواع كثيرة ، تختلف باختلاف المنظور إليها ، فهناك أنواع للحوار من حيث شكله ، وأنواع أخرى من حيث طابعه ، وأنواع ثالثة من حيث نتائجه ، وفيما يلى كلمة مختصرة عن كل نوع منها تبعًا للمنظور الخاص بها :
 
أ-الحوار من حيث شكله :
 
هناك نوعان أساسيان هما الحوار الشفهى ، والحوار المكتوب . ومن الواضح أن الأول منهما هو المستخدم فى سائر شئون الحياة اليومية ، وهو يتميز بالحيوية والسرعة ، ويهدف إلى تحقيق المصالح العاجلة ، مستخدمًا الحجج الخطابية والعاطفية إلى جانب القليل من الحجج العقلية .
 
أما الحوار المكتوب فيمكن وصفه بأنه حوار العقل والمنطق ، وهو يمتلئ بالحجج البرهانية والجدلية ، ولأنه لا يسعى لتحقيق مصالح عاجلة أو قريبة فإنه يتصف بالطول ، وبقدر من البرود ، لأنه يناقش أفكارًا ، واللجوء فيه إلى العاطفة أو الانفعال يعد أمرًا معيبًا . كذلك فإن التجريح الشخصى يهبط بقيمته ، ويخرجه عن المستوى اللائق به .
 
وللحوار المكتوب أصول يجب الالتزام بها ، وآداب ينبغى مراعاتها . فمن ذلك مثلاً : الأمانة فى عرض وجهة النظر الأخرى ، وتحديد نقاط الخلاف الرئيسية ، والرد على كل منها بموضوعية ، وتوثيق المعلومات الواردة بقدر الإمكان ، مع بيان الأساس أو الأسس التى يستند إليها الرد والمردود عليه ، وفى كل ذلك ينبغى إظهار الاحترام اللائق لصاحب الرأى الآخر ، والابتعاد تمامًا عن الإساءة إليه أو الاستهزاء به، حتى ولو كانت آراؤه ضعيفة ، وحججه متهافتة .
 
وفى ثقافتنا العربية صفحات كثيرة ورائعة تعد نماذج جيدة على الالتزام الكامل بأصول الحوار وآدابه . ويكفى أن لدينا علمًا خاصًا بذلك ، هو “علم آداب البحث والمناظرة” . لكننا نعثر أيضًا على مناظرات تمثل أنواعًا من الحوار ، الذى لم يتحقق فيه هذا الالتزام ، أو تحقق بدرجات متفاوتة ، وجرى فيه تجريح الخصوم ووصفهم بالكفر والفسق والفجور ، كما تم تشبيههم أحيانًا بالخنازير والكلاب !
 
ب-الحوار من حيث طابعه :
 
توجد ثلاثة أنواع من الحوار ، أولها الحوار الهادئ الحميم الذى يدور عادة بين أطراف متفقة سلفًا فى الرأى والتوجهات . وهذا الحوار على الرغم من أوصافه التى تحظى من الجميع بالقبول والرضا ، إلا أنه قد يتحول بالتدريج إلى نوع من الحوار مع النفس ، أى حوار من طرف واحد ، لا يوجد فيه سوى رأى واحد ، يُوافق عليه المتحاوران .
 
وثانيها الحوار الموضوعى الذى يدور عادة بين أطراف مختلفة فى الرأى ، يعرض كل منهم وجهة نظره ، مدعمًا إياها بالأدلة ، وموضحًا بالأمثلة ، لإقناع الأطراف الأخرى ، ثم يقوم غيره بعرض ما لديه ، وهكذا يسير الحوار بنظام وموضوعية ، مع إتاحة الفرصة للتعقيبات ، وإعطاء كل واحد من المتحاورين الوقت المناسب والمحدد له ، حتى يتبلور فى النهاية رأى صحيح ، ويحظى بإجماع الحاضرين أو بأغلبية الأصوات .
 
فى مثل هذا النوع من الحوار ، ينبغى أن تنصب المناقشات حول الأفكار ، وليس الأشخاص ، حول أسلوب العمل وليس القائمين عليه ، حول قيمة النتائج والوصول إلى أفضل عائد منها ، ومن المفترض أن يبدأ الحوار ويتطور فى وجود مجموعة من الحقائق المعلنة أمام الجميع ، وأن يستعان فى ذلك بالأرقام الموثقة والرسوم البيانية الصحيحة .
 
أما النوع الثالث من الحوار ، فهو الحوار المتشنج ، وهو الذى يدور عادة بين أطراف مختلفة سلفا ، لا يسمح كل منها بقبول أى رأى من الطرف الآخر ، بل إنه يسعى بكل الوسائل لإسكاته ، أو التشويش عليه ، إما برفع الصوت ، أو بتحريك الأيدى ، أو حتى بالتهديد بالضرب . وأحيانا ما يحدث من أحد الأطراف انسحابه من جلسة الحوار لواحد من سببين : إما لكى لا يتيح أى فرصة للطرف المخالف له للتعبير عن رأيه ، حتى لا يعرف وينتشر ، وإما لحرصه على أن يفوز هو نفسه فى الحوار ، حتى ولو كان رأيه ضعيفا ، وأدلته متهاوية . فى مثل هذا النوع من الحوار يسود التعصب ، وضيق الأفق ، وتغلى النفوس بالغضب ، ويسعى المحاور أو المحاورون من جبهة واحدة إلى ضرورة القضاء المبرم على خصومهم . ولا شك أن هذا الجو لا يسمح للحقيقة أن تظهر ، ولا للآراء الصائبة أن تعبر عن نفسها ، وبالتالى تفشل عن تحقيق الأهداف المرجوة منها .
 
ج- الحوار من حيث نتائجه :
 
هناك ثلاثة أنواع ، أولها الحوار العقيم ، الذى يدور أساسا حول مشكلة زائفة ، أى مشكلة من اختراع شخص أو أشخاص تكون لهم مصلحة خاصة فى شغل الناس عن مصالحهم الحقيقة . ومن ذلك مثلا الحديث عن مشكلة شاب يقتل والديه (حالة فردية) وإهمال مشكلة قتلى المواصلات العامة على الطرق (ويصل عددهم إلى عدة آلاف سنويا) ، أو مشكلة الدروس الخصوصية (حالة عارضة) وإهمال مشكلة كيفية الارتقاء بمستوى التعليم (ظاهرة أساسية) ، ومشكلة الغزو الثقافى (مفتعلة) وإهمال مشكلة ضعف الترجمة (وهى سبب رئيسى فى ركود الحركة الثقافية) . ومما هو ملاحظ أن الحوار حول مشكلة زائفة يكبر ويتعاظم لكنه يظل يدور فى حلقات مفرغة ، لأنه ببساطة لا يعالج مشكلة حقيقية ، أى عقبة تقف فى سبيل الفكر والسلوك الإنسانى .
 
وفى مثل هذا النوع من الحوار ، يقوم المحاور باستعراض عضلاته الثقافية إن صح التعبير ، وكثيرًا ما يبتعد عن الموضوع ، محلقًا فى آفاق أخرى بعيدة ، ومتحدثًا عن مجتمعات أخرى مختلفة ، وتجارب لا تمت للواقع بصلة .. ولو تأمل القارئ حديثه جيدًا ، بل لو تأمل هو نفسه حديثه لأدرك أنه لا يقدم شيئا ذا فائدة ، والسبب بسيط للغاية، لأنه يضيع وقته وجهده فى محاولة حل لغز من صنع عقله ، وليست له علاقة بالواقع.
 
وعلى العكس تمامًا من هذا الحوار العقيم ، يوجد الحوار المنتج أى الذى يتناول مشكلة حقيقية ، ويكون الهدف منه الوصول إلى حل محدد لها . فى هذا النوع من الحوار ، يجرى إلقاء الضوء على نشأة المشكلة ، وتطورها ، وأهم مظاهرها ، ومدى خطورتها ، تمهيدًا لاقتراح الحل أو الحلول المناسبة لها . وقد قال أسلافنا بحق إن “تحديد المشكلة يعد جزءًا من حلها” ، لكن ذلك لا يحدث إلا إذا اشترك فى مناقشتها عدد من المحاورين ، الذين تدفعهم الرغبة الصادقة فى التوصل إلى الحلول ، من خلال حوار يكشف مختلف جوانب المشكلة ، فى لغة دقيقة وواضحة ، وباستخدام مصطلحات محررة من الفوضى والغموض . إن المحاورين فى مثل هذا العمل يكونون أشبه بالبنائين ، الذين يعرف كل منهم دوره فى تشييد البناية المتكاملة . ولا شك أن حوارًا كهذا لابد أن يخلو من الاستطراد والمهاترة ، وأن يجرى فى جو من الجدية والاحترام ، حتى يصل إلى هدفه بكل سلاسة ويسر .
 
وإلى جانب كل من النوعين السابقين ، يوجد نوع ثالث من الحوار ، يمكن أن نطلق عليه حوار الاستكشاف ، وهو الذى يسعى إلى تحديد المشكلة ، وليس بالضرورة التوصل إلى حل لها ، وذلك عندما تكون تلك المشكلة من الصعوبة والتعقيد والتشابك مع غيرها من المشكلات الأخرى .. حينئذ يتم حوار لمحاولة تفكيك المشكلة المعقدة إلى عناصرها البسيطة ، وبيان علاقات التداخل والاتصال بينها وبين المشكلات الأخرى المرتبطة بها . ولنأخذ مثالاً على ذلك : مشكلة الإسكان، التى ترتبط بمشكلة العمل ، ومشكلة البطالة ، ومشكلة التضخم ، ومشكلة الزواج .. الخ . ومن الواضح أن مثل هذا النوع من الحوار لا يتطلب فقط مجموعة متحاورين ، بل مجموعات من سائر التخصصات ، تكرس كل واحدة جهودها حول نقطة محددة ، ثم يتبادل الجميع ما توصل إليه كل منهم .
 
ولا شك أن هذا الحوار يحتاج إلى إعداد جيد مسبقًا ، وإلى إدارة حكيمة وحازمة ، حتى تستطيع أن تنسق بين تلك “الحوارات” ، وأن تجمع بينها أخيرًا فى منظومة واحدة . وهنا لا يوجد مجال للمزايدة أو استعراض العضلات ، وإنما المطلوب هو الاختصار والتحديد وبلورة المفاهيم وتحديد العلاقات فى صيغ شبه رياضية ، حتى تكون أساسًا جيدًا للتعامل معها والإفادة من معطياتها .
 
 
شروط الحوار المنتج :
 
إن النتائج لا تأتى من فراغ ، فإذا كنا نطمح إلى أن تكون حواراتنا منتجة ، بمعنى أن تضعنا على طريق الفعل ، فلا بد أن نتتبع نماذجها الجيدة ، وأن نفحص أسباب نجاحها ، كما ينبغى أن نرصد بكل دقة الشروط التى تساعد على هذا النجاح . ويمكن أن نسجل هنا أهم هذه الشروط فيما يلى :
 
 
1-توافر مرجعية يعترف بها كل من المتحاورين . وهذه المرجعية قد تكون قوانين العقل ، أو مبادئ الدين ، أو سلطة التقاليد ، أو تحقيق المصلحة .
2-وجود حكم يلتزم كل من المتحاورين بطاعة أوامره وتنفيذ ملاحظاته . ومن المعروف أن هذا الحكم هو الذى يقوم بدور التنظيم والفصل فى أثناء المحاوره ، وله الحق فى إنهائها عندما تحيد عن أهدافها .
3-إعطاء الفرص المتكافئة لكل الأطراف ، سواء فى الوقت المحدد للحديث ، أو فى إبداء الملاحظات والتعقيب .
4-استغلال المحاور للوقت المخصص له ، وعدم إضاعته فى مقدمات غير ضرورية ، أو استطراد غير مطلوب ، وأن يتميز حديثه بالتركيز ، وترتيب المعلومات ، والتصريح بالنتيجة التى يريد الوصول إليها .
5-ضرورة الإصغاء الكامل عندما يتحدث الطرف الآخر ، وعدم ملاحقته بالموافقة ، أو مقاطعته بالمخالفة . وهذا يعنى تسجيل الملاحظات عليه ، وإبداءها عندما تعطى له الكلمة .
6-احترام شخص المحاور ، وعدم الإساءة إليه بألفاظ أو عبارات غير لائقة ، وكذلك عدم الاستهزاء به حتى ولو بالتلميحات والنظرات !
7-أن يكون لدى أطراف الحوار الاستعداد لسماع وجهات النظر الأخرى ، والاعتراف بالحق عند ظهوره . ولا شك أن هذا الشرط يتطلب “شجاعة أدبية” ينبغى أن تكون من أخلاقيات المحاور الحقيقى .
 
فإذا أردنا بعد ذلك أن نتعرف على عناصر القوة وعوامل الضعف فى الحوار ، أمكننا خلال استعراض عشرات – ولا نقول مئات الحوارات – أن نستخلص أهم هذه العناصر والعوامل :
 
عناصر القوة فى الحوار :
 
1-الإلمام الجيد بجوانب المشكلة التى يدور الحوار حولها (نشأتها ، تطورها، مظاهرها ، مدى خطورتها) .
2-يمكن للاستشهاد بالنصوص الدينية ، عندما يتعلق موضوع الحوار بذلك ، أن يكون من أهم العناصر التى تقوى جانب المحاور ، وتضعف من موقف المحاور الآخر .
3-استخدام المعلومات التاريخية ، بشرط الدقة فى إبرازها ، وأن تكون فى موضعها تماما ، أى أن يكون توظيفها من أجل تأكيد معلومة معينة ، أو دحض معلومة أخرى لدى المحاور الآخر .
4-الاستعانة بلغة الأرقام مما يضفى الكثير من المصداقية على حديث المحاور . وهنا أيضا لابد من التأكد من مصدرها ، حتى لا ينهدم بناء المحاور ، إذا ثبت عدم صحة رقم واحد مما استعان به .
5-تطعيم الحديث بالحجج المنطقية ، التى تتمثل أهميتها فى سهولة تصديقها من المتابعين للحوار . وكلما اسخدمها المحاور بوضوح كانت أقوى تأثيرا .
6-استمداد الأمثلة من الحياة الواقعية ، لشرح وتفسير الحقائق العلمية والنظريات ، حتى يكون الحوار حيا ، وقريبا من أذهان المتابعين .
7-استخدام اللغة المقنعة ، وأعنى بها اللغة التى تسم بالدقة والوضوح ، مع الابتعاد عن الأساليب القديمة ، والكليشيهات التى فقدت طزاجتها من كثرة الاستعمال .
8-إجادة طرح الأسئلة والتساؤلات ، فهى تعتبر دائما وسيلة من وسائل الهجوم ، حتى لانتاج للمحاور الآخر فرصة طرحها .
9-عدم إهمال الإجابة على أى سؤال يطرحه المحاور الآخر ، لكن لا تبقى ثغرات مفتوحة فى الحوار .
10-وأخيرا كلما توافر لدى المحاور معلومات كافية عمن يحاوره كان فى موقع أفضل، ولا يعنى هذا استخدام معلومات شخصية ضده أثناء المحاورة ، وإنما الإشارة عند اللزوم لبعض أفكاره التى سبق أن أعلنها من قبل .
 
 
مظاهر الضعف فى الحوار :
 
1-الظهور بمظهر التردد والنسيان .
2-محاولة تذكر المعلومات ، أو الأسماء ، أو الأرقام ما يؤدى إلى إملال المتابعين للحوار .
3-الخروج عن موضوع المحاضرة ، بكثرة الاستطراد .
4-حشو الحديث باللوازم الشخصية كالقَسَم ، أو ألفاظ التفخيم (حضرتك ، سيادتك .. إلخ) .
5-مقاطعة المحاور الآخر أو التشويش عليه أثناء حديثه .
6-تعمد الإساءة الشخصية للمحاور الآخر .
7-الانفعال والتلويح بالأيدى فى وجه المحاور الآخر .
 
 
 
كيف نعلم شبابنا الحوار ؟
 
قبل الإجابة على هذا السؤال الهام ، لابد أن نحسم الإجابة حول سؤال آخر يسبقه ، وهو : هل الحوار موهبة أو اكتساب ؟
 
والواقع أننا نشهد العديد من المفكرين الذين برعوا فى فن الحوار براعة فائقة ، إلى درجة أن براعتهم لم تقتصر فقط على إعجاب المعاصرين لهم ، وإنما استمرت لدى الأجيال اللاحقة . وحسبنا أن نشير فى هذا الصدد إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو من العصر الإغريقى ، والأشعرى وابن قتيبة وابن حزم فى الثقافة الإسلامية ، وشكسبير وفولتير وكانط من الثقافة الغربية . وهذه فقط مجرد أمثلة ، لكننا إذا رحنا نتتبع سير هؤلاء المحاورين العظام وجدناهم يمتلكون مقدرة فريدة على تحليل الآراء ونقدها ، والرد القوى المقنع على أصحابها . ويدهشك بالفعل أن الرأى قد يبدو قويا ومتماسكا ولكنه عندما يتم تناوله على قلم واحد من أمثال هؤلاء المحاورين الكبار تجده قد تهاوى ، وسقطت حججه أمام القوة العقلية الهائلة التى يقابله بها . فإذا ما بحثنا أقوال هؤلاء المحاورين الكبار وجدنا أنهم عاشوا فى عصور معينة ، وأنهم تعرضوا لمثل ما تعرض له معاصروهم من المفكرين والمثقفين ، وهذا يجعلنا نسرع إلى القول بأن القدرة على الحوار من المواهب التى تمنح للإنسان ، وليست من الخبرات التى يقوم باكتسابها ، وإلا لكان كل من عاش فى بيئة سقراط أو أفلاطون ، ونهل من ثقافتهما أصبح على نفس مستواهما !
 
لكننا من ناحية أخرى نلاحظ أن البيئة الثقافية الواحدة لا تنتج دائما مثقفين متشابهين (وإلا لكان الأمر بشعا للغاية !) ، وإنما تساعد أصحاب الاستعدادات المختلفة على تنمية قدراتهم ، وتفجير طاقاتهم ، كل بحسب ما هو مستعد له . فهناك المفكر الهادى الذى لا يحب أن يدخل فى أى معركة فكرية ، وهناك المفكر الشجاع الذى يقبل التحدى على الفور حين يفرض عليه ، كما أن هناك المفكر الجسور الذى يسعى بنفسه إلى مواطن الخلاف لكى يحركها ، ويصبح طرفا فيها . وهكذا فإن البيئة الثقافية والفكرية تقوم بدور كبير فى تهيئة الجو المناسب لظهور أصحاب القدرة على الحوار .
 
هنا يمكن أن نجيب على السؤال المطروح ، وهو كيف نعلم شبابنا أو نساعدهم على إجادة الحوار ؟ من المؤكد أن كل إنسان (بدون استثناء ومنذ الطفولة) لديه استعداد للتفوق فى مجال ما . وأن البيئة التى ينشأ ويتطور فيها من أهم العوامل على إبراز هذا الاستعداد . لذلك فلا مفر من التوقف عند البيئة الأولى التى ينشأ فيها الإنسان، وهى الأسرة ، وقد قيل بحق إنه يكتسب من خلالها أكثر من 80% من عاداته التى تصحبه حتى آخر عمره . لذلك فلابد أن نسأل :
 
1-هل يتحاور الكبار فى الأسرة أمام الأطفال فى الموضوعات العامة ، وهى شئون الأسرة ؟
2-هل يتيح الوالدان لأبنائهما فرصة التعبير عن طلباتهم بدون خوف ؟
3-هل يمكن للطفل أن يرفض بعض قرارات الأسرة أم عليه دائما أن يرضخ لها ؟
4-هل يسمح للطفل أن يجلس مع ضيوف الأسرة ، ويقول رأيه أمامهم بصراحة ؟
5-هل يمكن للطفل أن يستضيف أصدقاءه فى المنزل ، ويتحدث معهم أمام أسرته ؟
6-هل تثق الأسرة فى الطفل لنقل رسالة إلى أحد الجيران أو المعارف ؟
 
فإذا انتقلنا مع الطفل ، الذى أصبح صبيا ، ويافعا ، وشابا فى كل من المدرسة والجامعة (متحسرين بالطبع على أولئك الذين يتسربون من التعليم !) كان من حقنا أيضا أن نسأل :
 

  • هل يتيح المعلمون والأساتذة للتلميذ أو الطالب فرصة مناسبة وبدون حرج لكى يقول إنه لم يفهم هذه النقطة أو تلك ؟
  • هل تقدم له مادة علمية تحتوى على وجهات نظر متعددة ، ويكون له حق تبنى واحدة منها ؟
  • هل يسمح له أن يقف بين زملائه ، ويعلن عن رأيه بكل صراحة فى المقرر الذى يدرس له ؟ أو فى بعض عناصره ؟
  • هل يقابل عند الاعتراض بالقدر اللازم من الاحترام ، أم أنه يصبح عرضه للسخرية والاستهزاء ؟
  • هل يسأل أثناء الاختبارات أو الامتحانات عن رأيه فى القضية المطلوب منه الحديث عنها ، أو عليه فقط عرضها كما هى ؟
  • هل تتاح له ممارسة الأنشطة التى تساعده فى التعبير عن نفسه كالإذاعة المدرسية ، وصحافة الحائط ، والمسرحيات ، والندوات ، والمناظرات .. إلخ .
     
    وننتقل بعد ذلك إلى دائرة العمل ، ومع أن الكثيرين يغفلونها فى الحديث عن البيئة ، فإنها لا تقل أهمية عن كل من المدرسة والجامعة 0 لأن الإنسان يتعلم منها الكثير ، والتعلم فيها يمتاز بطابعه العملى التطبيقى . كما أن الجو الذى يسود دائرة العمل يختلف من مكان لآخر ، تبعا لطبيعته من ناحية ، وللمسئولين عن إدارته من ناحية أخرى . وهنا يمكن أن نسأل :
     
  • هل يتاح للعاملين مناسبات (كالاجتماعات الدورية أو غيرها) لإبداء وجهات نظرهم فى أسلوب العمل ، ونظام المكافآت والحوافز ؟
  • هل يغضب المسئولون عن الإدارة من النقد الموضوعى ؟ وكيف تكون ردود فعلهم عند سماعه ؟
  • هل يسمح بطرح أفكار جديدة لتحسين الأداء ، أو رفع كفاءة الإنتاج ؟ وطريقة تقبلها من الإدارة ؟
  • إلى أى مدى ، تكون وسائل الاتصال بين الإدارة والعاملين سهلة وميسورة ؟
  • هل تفرض التعليمات الجديدة من الإدارة ، أو تجرى مناقشتها مع العاملين قبل تطبيقها ؟
  • هل تسمع الإدارة شفويا لشكاوى العاملين ، أم أنها لا تقبل منهم إلا طلبات مكتوبة ؟
  • هل تعقد الإدارة مع العاملين اجتماعات (أسبوعية – نصف شهرية – شهرية – فصلية – سنوية) ؟ وكيف يجرى الحوار فيها ؟
     
    وأخيرا نصل إلى وسائل الإعلام باعتبارها قد أصبحت بالفعل ذات أثر مباشر على توجيه الرأى العام ، وتكوين ثقافة أفراد المجتمع . والواقع أن دور وسائل الإعلام، وخاصة التلفزيون ، قد تجاوز كثيرا دور كل من الأسرة والمدرسة . فقد دخل هو نفسه إلى الأسرة ، واحتل مكان الصدارة فيها ، ولم ينج من تأثيره حتى الأب والأم ، فكيف بالصغار ؟ أما المدرسة فقد تخلفت عن التلفزيون فى شد انتباه التلاميذ ، كما عجزت عن تقديم المدهش والرائع كما تفعل صوره الملونة ، وبرامجه المتنوعة والمبهرة . وأنا أسأل المتشبثين بمواقع التعليم التقليدية سؤالا واحدا هو : هل تستطيع المدرسة أن تحرك عقل التلميذ وتستثير خياله كما يفعل التلفزيون ؟
     
    إذن فمن الواجب علينا أن ندرك دور وسائل الإعلام الحديثة ، وأن نقدر إمكانياتها الهائلة فى “تعليم الحوار” للشباب . ونحن هنا لا نطمع إلى إيجاد منظومة متكاملة لتحقيق هذا الهدف ، وإنما يكفى الاتفاق على الحد الأدنى من الأسس والمبادئ التى ينبغى مراعاتها ، والالتزام بها قدر الإمكان . ومن أهمها:
     
    1-تحديد مسئولية رؤساء تحرير الصحف ، ورؤساء قنوات الإذاعة والتلفزيون فى استبعاد أنواع الحوار الهابط ، والاحتفاء بالنماذج الجيدة من الحوار البناء .
    2-تنقية الحوار من الألفاظ البذيئة ، والعبارات أو التلميحات التى تستهزئ أو تزدرى الآخرين .
    3-احترام آراء الأطفال ، وتقدير وجهة نظر المرأة ، والإصغاء الكامل لكل من يريد التعبير عن نفسه من مختلف الفئات ، أيا كان مستواها الثقافى .
    4-تقديم ندوات الحوار المتعدد الآراء ، مع تطبيق الضوابط التى تجعله متطورا ، وبناء، وينتهى إلى نتيجة محددة .
    5-بذل المزيد من الجهد للارتقاء بمستوى الحوار فى الأعمال الدرامية بين الشخصيات ، لما لذلك من أثر مباشر على ثقافة المشاهدين .
    6-ضرورة إتقان الصحفيين والمذيعين فن السؤال والتساؤل ، وهو الفن الذى بدونه لا يمكن إجراء أى حوار ناجح مع شخصية كبيرة أو طفل صغير .
     
    إننا نؤكد على أهمية كل العناصر السابقة التى تتعاون فيما بينها لتكوين البيئة اللازمة ، والظروف المناسبة لإنتاج الحوار الجيد ، وازدهاره فى المجتمع من أجل تحقيق أفضل النتائج له ، ومما لا شك فيه أن مثل هذه البيئة ستكون قادرة على إفراز العناصر البشرية القادرة على إجراء الحوار وإدارته ، على النحو الذى يجعل منه الوسيلة المثلى لمناقشة قضايا المجتمع ومشكلاته ، بهدف تقديم الحلول المناسبة لها. إن العقل الإنسانى لا يستطيع وحده أن ينتج فكرة عبقرية ، لكن العقول الأخرى التى تناقشه فيها هى التى يمكنها أن تنقل تلك الفكرة من مجال النظر إلى واقع التطبيق . وليس “الإجماع” الذى هو أحد مصادر الشريعة سوى اتفاق العلماء على رأى واحد منهم ، بعد أن تمت مناقشته ، وتأكد صوابه .
     
    حوار المجتمعات :
     
    اعتقد أنه بإمكاننا الآن ، وبعد أن حاولنا بيان أسس الحوار الجيد داخل المجتمع ، أن نتحدث عن حوار بين مجتمعين أو أكثر . ولكى ينجح مثل هذا الحوار ، لابد أن يكون كل من المجتمعين راغبا فى التعرف على المجتمع الآخر ، وحريصا على تقوية علاقاته معه . لذلك فمن غير الممكن قيام حوار بين مجتمعين فى حالة عداء ، أو فى حالة حرب (كما سبقت الإشارة). كذلك لا يمكن تصور قيام حوار بين المجتمعات بعيدا عن دائرة المصالح المشتركة بينهما ، بل إن مثل هذا الحوار ينبغى أن يقوم بدور فى تقريب هذه المصالح ، وتوزيعها بعدالة على كلا الطرفين . أمر ثالث هام ، وهو أن الحوار لا ينجح بمجرد البدء فيه ، وإنما من خلال استمراره ، وتعدد مستوياته ، وتنوع مجالاته . والدليل على ذلك أننا قد شهدنا الكثير من الحوارات تفشل بسبب افتقادها العناصر التى تضمن استمرارها ، ومن ذلك مثلا قيام حوار سياسى بين بلدين دون أن تدعما مصلحة اقتصادية ، أو قيام حوار ثقافى دون أن يكون مدعوما بعلاقات اجتماعية أكثر اتساعا . وأخيرا فإن الحوار بين المجتمعات يتطلب قدرا من الندية ، لا أقول من كل الجوانب ، وإنما فى الكثير منها . ونحن نعلم جيدا أن حوار الكبير مع الصغير يتحول إلى تلقين ، وحوار الغنى مع الفقير يفضى إلى الصدقة ، وحوار القوى مع الضعيف ينتهى بالسيطرة !
     
    وقد شاع فى الآونة الأخيرة مصطلحات “الحوار بين الحضارات ، والحوار بين الثقافات ، والحوار بين الأديان .. “وكلها مصطلحات جيدة لمسميات وهمية، لا وجود لها فى الواقع . وحقيقة ما يحدث أن الأطراف الضعيفة هى التى تسعى إلى ذلك دون أن تكون هناك رغبة فعلية من الأطراف الأكثر قوة وهيمنة . لذلك فإن اجتماعات تعقد ، وندوات تقام ، تتحدث فيها أطراف مختلفة الثقافات والخصائص والأديان ، كل عما لديه ، ويستمع إليه الآخرون دون أن يدخلوا فى حوار حقيقى ، ثم تنفض الجلسات، ويعود كل طرف إلى مكانه ، دون أن يكون قد تحققت نتيجة واحدة ، اللهم إلا تعرف هؤلاء المجتمعين على بعضهم البعض ، وقد كان من الممكن أن يحدث ذلك دون الدخول تحت مظلة الحوار المزعوم .
     
    ليس معنى هذا أننى أهاجم هذا النوع من الحوار ولكننى فقط أنبه إلى قلة جدواه . وستظل ثمرته ضامرة طالما لم يقم على أسس واضحة ، أهمها “تحقيق المصلحة” بين المجتمعات الراغبة فى إقامة علاقات تعاون حقيقى فيما بينها .
     
    الحوار بين الأديان حقيقة وعقباته
     
    الحوار بين الأديان مصطلح جميل ومريح .. وقد أطلقه الغرب ، وروجت له الولايات المتحدة الأمريكية فى ظل حملتها إلى العولمة ، وراحت الدول النامية ، المسكينة والواقعة تحت الضغط تسعى للقبول به ، فعقدت له ندوات ، وحشدت حوله مؤتمرات لم يخرج واحد منها حتى اليوم بنتيجة واحدة محددة وملموسة على أرض الواقع .. لماذا ؟ لأن الذين يسبحون فى مياهه لن يجدوا سمكة واحدة ، والسبب فى ذلك أنهم يحاولون الصيد فى حمام سباحة ، وليس فى بحر مفتوح أو نهر طبيعى .. ومعلوم أن حمام السباحة يكون خاليا من السمك ، والمياه التى به صافية جدا ، بحيث لا يمكنك إذا نظرت فيها أن ترى سوى بلاط القاع !
     
    أترك التشبيهات البلاغية ، وأعود لحقيقة الموضوع ، وهو أن الأديان الموجودة فى العالم تنقسم إلى قسمين .. أحدهما أديان سماوية ، أى منزلة من الله تعالى على رسل معينين ، مثل اليهودية على موسى ، والمسيحية على عيسى ، والإسلام على محمد ، عليهم جميعا السلام ، والقسم الثانى أديان وضعية أى من صنع البشر أنفسهم مثل الكونفوشوسيه التى صاغها كونفوشيوس ، والبوذية التى أنشأها بوذا . وهنا لا يمكن بحال من الأحوال أن نتحاور حول دين أنزله الله تعالى للبشر ، وبين دين آخر ابتدعه أحد البشر ، ثم اعتنقه عدد كبير من الناس .
     
    أما الحقيقة الثانية ، فتتمثل فى أن كل دين سواء كان سماويا أو وضعيا، له أتباعه الذى يؤمنون به ، ليس عن طريق العقل وحده ، وإنما كذلك بواسطة القلب والروح والوجدان .. ومن أصعب الأمور ، بل يكاد يكون من المستحيل التحاور بالعقل مع اتباع الأديان الذين استقرت عقائدهم من خلال هذه المناطق الثلاث ، كذلك فإن اتباع تلك الأديان ، منهم القادة أى العلماء الذين يحرسون الدين ، ويدافعون عنه ، ويعملون بكل الطرق على تقويته فى نفوس الاتباع ، لكى يبقى ويستمر ، بل يزيد وينتشر. والواقع أن هؤلاء القادة بعضهم صادق ومخلص فى التمسك بدينه والدفاع عنه، لكن بعضهم الآخر حريص على صيانة مكتسباته المادية والاجتماعية التى يحصل عليها من موقعه ! والمهم أن كلا النوعين غير مستعد على الإطلاق إلى الدخول فى حوار موضوعى مع علماء الأديان الأخرى ، لأن مثل هذا الحوار قد يؤدى إلى خلخلة الأوضاع المستقرة ، وبالتالى إلى الإطاحة بمواقع القيادة ، أو ضخامة المكتسبات !
     
    وحقيقة ثالثة تكمن فى أن كل الأديان الموجودة حاليا فى العالم تحتوى على جزء جوهرى كان وما يزال هو حقيقة الدين الأصلى ، وجزء آخر تم إلحاقه به على مدى العصور من واقع آراء البشر ، وأفكارهم الخاصة ، ولا شك أن الإقدام الحقيقى على الحوار سوف يتطلب فى البداية ضرورة التفرقة بين جوهر الدين ، والإضافات التى لحقت به ، وهذا عمل صعب جدا على نفوس القادة الذين يروجون للدين بهذين الجانبين معا .
     
    تبقى الحقيقة الرابعة ، وهى عقبة لا حل لها ، فإن كل دين يحتوى على تشريعاته الخاصة ، التى تحدد لأتباعه مناطق الحلال والحرام ، وتضع الحدود الفاصلة بينهما ، والأديان الموجودة فى العالم بدون استثناء يحلل بعضها ما يحرمه الآخر ، فكيف نصل من خلال الحوار بين الأديان إلى تحليل محرم ، أو تحريم حلال ؟!
     
    وأخيرا ، فليس معنى وجود هذه “الحقائق – العقبات” فى مجال الحوار بين الأديان بمانعة من “التعايش” بين أتباعها ، فلكل إنسان فى الوجود حق اعتناق الدين الذى يقتنع به ، وإنما عليه فى نفس الوقت أن يسمح لغيره بهذا الحق . والقرآن الكريم يؤكد ذلك بقوله “لكم دينكم ولى دين” وبقوله ” فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر” .
     
    1.       أما الذين يسعون إلى أن يجعلوا الناس كلهم على عقيدة واحدة فهم واهمون ومخطئون .. فالقرآن الكريم يقول “ولا يزالون مختلفين” لكنه يقول أيضا “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” وهذا هو الخيط الأبيض الذى يخرجنا من الظلمة ذلك النفق .. فنحن مختلفون فى أشكالنا وقومياتنا وأدياننا ، ولكننا مطالبون جميعا أن نتعارف . والتعارف يعنى الفهم . والفهم يؤدى إلى التسامح، ومن ثم على التعايش الذى هو إحدى أهم الغايات من وجود البشر على كوكب الأرض .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.